البداية أما هي فكانت فتاة روسية من عائلة محافظة لكنها أرثوكسية شديدة التعصب للنصرانية, عرض عليها أحد التجار الروس أن تصحبه مع مجموعة من الفتيات إلى دولة خليجية لشراء أجهزة كهربائية ثم بيعها في روسيا. كان هذا هو الهدف المتفق عليه بين الرجل وهؤلاء الفتيات, وعندما وصلوا إلى هناك كشَّر عن أنيابه, وعرض عليهن ممارسة الرذيلة, وبدأ في تقديم الإغراءات لهن: مال وافر, علاقات واسعة, إلى أن اقتنع أكثر الفتيات بفكرته إلا هذه الفتاة, كانت شديدة التعصب لدينها النصراني, فتمنعت, فضحك منها, وقال: أنت في هذا البلد ضائعة, ليس معك إلا ما تلبسين من الثياب, ولن أعطيك شيئاَ, وبدأ يٌضيِّق عليها, أسكنها في شقة مع بقية الفتيات, وخبَّأ جوازات سفرهن عنده, وانجرفت الفتيات مع التيار, وثبتت هي على العفاف. لا زالت تلح عليه كل يوم في تسليمها جوازها, أو إرجاعها إلى بلدها, فيأبى عليها ذلك, فبحثت يوماً في الشقة, حتى وجدت جوازها فاحتطفته, وهربت من الشقة, خرجت إلى الشارع, لا تملك إلا لباسها, هامت على وجهها, لا تدري أين تذهب, لا أهل, ولا معارف, ولا مال, ولا طعام, ولا مسكن, أخذت المسكينة تتلفت حائرة يَمْنَةً ويَسْرَةً, وفجأة رأت شابًّا يمشي مع ثلاث نساء, اطمأنت لمظهره, فأقبلت عليه, وبدأت تتكلم باللغة الروسية, فاعتذر أنه لا يفهم الروسية.قالت: هل تتكلمون الإنجليزية؟ قالوا: نعم, فرحت وبكت, وقالت أنا امرأة من روسيا, قصتي كذا وكذا, ليس معي مال, وليس لي مسكن, أريد العودة إلى بلادي, أريد منكم فقط إيوائي, يومين أو ثلاثة, حتى أتدبَّر أمري مع أهلي وإخوتي في بلادي. أخذ الشاب (خالد) يفكر في أمرها, ربما تكون مخادعة أو محتالة وهي تنظر إليه وتبكي, وهو يشاور أمه وأختيه, وفي النهاية أخذوها إلى البيت, وبدأت تتصل بأهلها, ولكن لا مجيب, الخطوط متعطلة في ذاك البلد. وكانت تعيد في كل ساعة الاتصال. عرفوا أنها نصرانية. تلطفوا معها, رفقوا بها, أحبتهم, عرضوا عليها الإسلام ولكنها رفضت, لا تريد, بل لا تقبل النقاش في موضوع الدين أصلاً, لأنها من أسرة أرثوذكسية متعصبة تكرة الإسلام والمسلمين. فذهب خالد إلى مركز إسلامي للدعوة, وأحضر لها كتباً عن الإسلام باللغة الروسية, فقرأتها وتأثرت بها, ومرت الأيام وهم يحاولون ويقنعون, حتى أسلمت وحسن إسلامها, وبدأت تهتم بتعاليم الدين, وتحرص على مجالسة الصالحات, خافت أن ترجع إلى بلدها فترتد إلى نصرانيتها.زواج فتزوجها خالد, وكانت أكثر تمسكاً بالدين من كثير من المسلمات, ذهبت يوماً مع زوجها إلى السوق, فرأت امرأة متحجبة قد غطت وجهها, وكانت هذه أول مرَّة ترى فيها امرأة متحجبة تماماً, فاستغربت من هذا الشكل. وقالت: خالد, لماذا هذه المرأة بهذا الشكل؟ لعل هذه المرأة مصابة بعلَّة شوهت وجهها, فغطته؟. قال: لا, هذه المرأة تحجبت الحجاب الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده, والذي أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, فسكتت قليلاً, ثم قالت: نعم, فعلاً, هذا هو الحجاب الإسلامي الذي أراده الله منا. قال: وما أدراك؟ قالت: أنا الآن إذا دخلت أي محل تجاري, لا تنزل أعين أصحاب المحل عن وجهي, تكاد أن تلتهم وجهي قطعة قطعة. إذن وجهي هذا لابد أن يُغطَّى, لا بد أن يكون لزوجي فقط يراه, إذن لن أخرج من هذا السوق إلا بمثل هذا الحجاب, فمن أين نشتريه؟ قال: استمري على حجابك هذا كأمي وأخواتي, قالت: لا, بل أريد الحجاب الذي يريده الله. مرت الأيام على هذه الفتاة, وهي لا تزداد إلَّا إيماناً, وأحبها مَن حولها, وملكت على زوجها قلبه ومشاعره.وفي ذات يوم نظرت إلى جواز سفرها, فإذا هو قد قارب الانتهاء, ولا بد أن يُجدَّد, والأصعب من ذلك, أنه لا بد أن يُجدد من المدينة نفسها الذي تنتمي إليها المرأة, إذن لا بد من السفر إلى روسيا, وإلا تعتبر إقامتها غير نظامية. قرر خالد السفر معها, فهي لا تريد السفر من غير محرم, ركبوا في طائرة تابعة للخطوط الروسية, وركبت هي بحجابها الكامل, وجلست بجانب زوجها شامخة بكل عزة. قال لها خالد: أخشى أن نقع في إشكالات بسبب حجابك, قالت: أنت الآن تريد مني أن أطيع هؤلاء الكفرة, وأعصي الله؟ لا والله, فليقولوا ما شاءوا. بدأ الناس ينظرون إليها, وبدأت المضيفات يوزعن الطعام, ومع الطعام الخمر, وبدأ الخمر يعمل في الرؤوس, وبدأت الألفاظ النابية, توجه إليها من هنا وهناك: فهذا يتندر, وذاك يضحك, والثالث يسخر, ويقفون بجانبها, ويعلِّقون عليها, وخالد ينظر إليهم لا يفهم شيئاً, أما هي فكانت تبتسم وتضحك, وتترجم له ما يقولون, غضب الزوج. فقالت: لا, لاتحزن, ولا يضِق صدرك, فهذا أمر بسيط, في مقابل ما جابهه الصحابة, وما حصل للصحابيات من بلاء وابتلاء, صبرت هي وزوجها, حتى وصلت الطائرة.في روسيا قال خالد: عندما نزلنا في المطار, كنت أظن أننا سنذهب إلى بيت أهلها, ونسكن عندهم, ثم بعد ذلك ننهي إجراءاتنا ونعود, لكن نظرة زوجتي كانت بعيدة. قالت لي: أهلي (أرثوذكس) متعصبون لدينهم, فلا أريد أن أذهب الآن, لكن نستأجر غرفة, ونبقى فيها, وننهي إجراءات الجواز, وقبيل السفر نزور أهلي. فرأيت أن هذا رأيٌ صوابٌ, استأجرنا غرفة وبتنا فيها, ومن الغد ذهبنا إلى إدارة الجوازات, دخلنا على الموظف فطلب الجواز القديم وصور للمرأة, فأخرجت له صوراً لها بالأسود والأبيض, ولا يظهر منها إلا دائرة الوجه فقط. فقال الموظف: هذه صورة مخالفة نريد صورة ملونة, يظهر فيها الوجه والشعر والرقبة كاملة, فأبت أن تعطية غير هذه الصور, وذهبنا إلى موظف ثانٍ, وثالث, وكلهم يطلبون صوراً سافرة, وزوجتي تقول: لا يمكن أن أعطيهم صورة متبرجة أبداً, فرفض الموظفون استقبال الطالب؛ فتوجهنا إلى المديرة الأصلية, فاجتهدت زوجتي أن تفنعها بقبول هذه الصور, وهي تأبى. فأخذت زوجتي تلح وتقول: ألا ترين صورتي الحقيقية, وتقارنينها بالصور التي معك, المهم رؤية الوجه, الشعر قد يتغير, هذه الصور تكفي؟ والمديرة تصر على أن النظام لا يقبل هذه الصور, فقالت زوجتي: أنا لن أحضر غير هذه الصور, فما الحل؟. قالت المديرة: لن يحل لكم الإشكال إلا مدير الجوازات الأصلية الكبرى في موسكو, فخرجنا من إدارة الجوازات, فالتفتتْ إليَّ وقالت: ياخالد نسافر إلى موسكو. عندها قلت لها: أحضري الصور التي يريدون, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, فاتقوا الله ما استطعتم وهذه ضرورة, والجواز سيراه مجموعة من الأشخاص فقط للضرورة, ثم تخفينه في بيتك إلى أن تنتهي مدته, دعي عنك المشاكل, لا داعي للسفر إلى موسكو, فقالت: لا, لايمكن أن أظهر بصورة متبرجة, بعد أن عرفت دين الله سبحانه وتعالى.في موسكو أصرَّت عليَّ فسافرنا إلى موسكو, واستأجرنا غرفة وسكنَّاها, ومن الغذ ذهبنا إلى إدارة الجوازات, دخلنا على الموظف الأول, فالثاني, فالثالث, وفي نهاية المطاف اضطررنا للتوجه إلى المدير الأصلي, دخلنا عليه, وكان من أشد الناس خبثاً. عندما رأى الجواز أخذ يقلب الصور, ثم رفع رأسه إلى زوجتي, وقال: من يثبت لي أنكِ صاحبة هذه الصور؟ يريدها أن تكشف وجهها ليراها, فقالت: له قل لأحد الموظفات عندك, أو السكرتيرات, تأتي فأكشف وجهي لها, وتطابق الصور, أما أنت فلن تطابق الصور, ولن أكشف لك وجهي؛ فغضب الرجل, وأخذ الجواز القديم والصور وبقية الأوراق, وضم بعضها إلى بعض, وألقاها في درج مكتبه الخاص, وقال لها: ليس لك جواز قديم ولا جديد إلا بعد أن تأتين إليَّ بالصور المطابقة تماماً, ونطابقها عليك. أخذت زوجتي تتكلم معه, تحاول إقناعه, وتكلمان بالروسية, وأنا أنظر إليهما, لا أفهم شيئاً, لكني غضبت ولا أستطيع أن أفعل شيئاً, وهو يردد: لا بد من إحضار الصور على شروطنا, حاولت المسكينة إقناعه, ولكن لا فائدة, فسكتت وظلت واقفة, التفتُّ إليها, وأخذت أعيد عليها وأكرر: يا عزيزتي, لا يكلف الله نفساً إلا وسعها, ونحن في ضرورة, إلى متى نتجول في مكاتب الجوازات, فقالت لي: (وَمَنْ يَتَّقِ اْللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). اشتد النقاش بيني وبينها, فغضب مدير الجوازات, وطردنا من المكتب, خرجنا نجر خطانا, وأنا بين رحمة بها وغضب عليها, ذهبنا لنتدارس الأمر في غرفتنا, أنا أُحاول إقناعها, وهي تحاول إقناعي, إلى أن أظلم الليل, فصلينا العشاء وأنا مشغول البال على هذه المصيبة, ثم أكلنا ما تيسر, ووضعت رأسي لأنام.كييف تنام؟فلما رأتني كذلك تغير وجهها, ثم التفتت إليَّ وقالت: خالد, تنام؟ قلت: نعم, أما تحسين بالتعب, قالت: سبحان الله, في هذا الموقف العصيب تنام؟ نحن نعيش موقفاً يحتاج منا إلى لجوء الله, قُم الجأ إلى الله فإن هذا وقت اللجوء؛ فقمت وصليت ما شاء الله لي أن أصلي, ثم نمت, أما هي فقامت تصلي وتصلي, وكلما استيقظت نظرت إليها, فرأيتها: إما راكعة, أو ساجدة, أو قائمة, أو داعية, أو باكية, إلى أن طلع الفجر, ثم أيقظتني, وقالت: دخل وقت الفجر, فَهَلُمَّ نصلي سوياًّ, فقمت وتوضأت وصلينا, ثم نامت قليلاً. وبعد ما طلعت الشمس استيقظت, وقالت: هيا لنذهب إلى الجوازات, فقلت لها: نذهب إلى الجوازت!! بأي حجة؟! أين الصور؟ ليس معنا صور؟! قالت: لنذهب ونحاول, لا تيئس من روح الله, لا تقنط من رحمة الله, فذهبنا, ووالله ما إن وطأت أقدامنا أول مكتب من مكاتب الجوازات, ورأوا زوجتي وقد عرفوا شكلها من حجابها, وإذا بأحد الموظفين ينادي: أنت فلانة؟ قالت: نعم, قال: خذي جوازكِ, فإذا هو مكتمل تماماً, بصورها المحجبة, فاستبشرت, والتفتت إليَّ وقالت: ألم أقل لك: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً).فلما أردنا الخروج, قال الموظف: لابد أن تعودوا إلى مدينتكم التي جئتم منها, وتختموا الجواز منها, فرجعنا إلى المدينة الأولى, وأنا أقول في نفسي, هذه فرصة لتزور أهلها قبل سفرنا من روسيا, وصلنا إلى مدينة أهلها, استأجرنا غرفة, وختمنا الجواز.رحلة العذابثم ذهبنا لزيارة أهلها, وطرقنا الباب, كان بيتهم قديماً متواضعاً, يبدو الفقر على سكانه ظاهراً, فتح الباب أخوها الأكبر, كان شاباً مفتول العضلات, فرحت المسكينة بأخيها, وكشفت وجهها وابتسمت ورحبت, أما هو فأول ما رآها تقلب وجهه بين فرح برجوعها سالمة, واستغراب من لباسها الأسود الذي يغطي كل شيئ, دخلت زوجتي وهي تبتسم, وتعانق أخاها, ودخلْتُ وراءها, وجلسْتُ في صالة المنزل, جلست وحيداً, أما هي فدخلت داخل البيت, أسمعها تتكلم معهم باللغة الروسية, لم أفهم سيئاً, لكنني لاحظت أن نبرات الصوت بدأت تزداد حدة!! واللهجة تتغبر!! والصراخ يعلو!! وإذا كلهم يصرخون بها, وهي تدافع هذا, وترد على ذاك, فأحسست أن الأمر فيه شر! ولكنني لا أستطيع أن أجزم بشئ؛ لأني لم أفهم من كلامهم شيئاً, وفجأة بدأت الأصوات تقترب من الغرفة التي أنا فيها, وإذا بثلاثة من الشباب, يقدمهم رجل كهل, يدخلون عليَّ, توقعت في البداية أنهم سيرحبون بزوج ابنتهم! وإذا بهم يهجمون عليَّ كالوحوش, وإذا بالترحيب ينقلب إلى لكمات, وضربات وصفعات!!!.أخذت أدافعهم عن نفسي, وأصرخ وأستغيث, حتى خارت قواي, وشعرت أن نهايتي في هذا البيت, ازدادوا لكماً وركلاً, وأنا أتلفت حولي, أحاول أن أتذكر أين الباب الذي دخلت منه لأهرب منه, فلما رأيت الباب قمت سريعاً, وفتحتُ الباب وهربت, وهم ورائي, فدخلت في زحمة الناس, حتى غبت عنهم, ثم اتجهت إلى غرفتي, وكانت ليست ببعيدة عن المنزل, وقفت أغسل الدماء عن وجهي وفمي, نظرت إلى نفسي وإذا بالضربات والصفعات, قد أثَّرت في جبهتي وخدَّي وأنفي, وإذا بالدم يسيل من فمي, وثيابي ممزقة, حمدت الله أن أنقذني من أولئك الوحوش, لكني قلت: أنا نجوت لكن ما حال زوجتي؟! أخذت صورتها تلوح أمام ناظري, هل يمكن أن تتعرض هي أيضاً لمثل هذه اللكمات والضربات, أنا رجل وما كدت أتحمل, وهي امرأة فهل ستتحمل؟!! أخشى أن تنهار المسكينة.هل حان الفراق؟بدأ الشيطان يعمل عمله, ويقول لي: سترتد عن دينها, ستعود نصرانية, وتعود إلى بلدك وحدك, وبقيت حائراً, ماذا أفعل في هذه البلاد؟ أين أذهب؟ كيف أتصرف؟ النفس في هذا البلد رخيصة, يمكنك أن تستأجر رجلاً لقتل آخر بعشرة دولارات! أوه, كيف لو عذبوها فدلتهم على مكاني, فأرسلوا أحداً لقتلي في ظلمة الليل, أقفلت عليَّ غرفتي, وبقيت فيها فزعاً خائفاً حتى الصباح, ثم غيرت ملابسي, وذهبت أتجسس الأخبار, أنظر إلى بيتهم عن بعد, أرقبه, وأتابع كل ما يحصل فيه, لكن الباب مغلق, ظللت أنتظر, وفجأة, فٌتح الباب, وخرج منه ثلاثة من الشباب, وكهل, وهؤلاء الشباب هم الذين ضربوني, يبدو من هيئتهم أنهم ذاهبون إلى أعمالهم, أُغلق الباب وأُقفل, وبقيت أرقب وأترقب وأنظر, وأتمنى أن أرى وجه زوجتي, ولكن لا فائدة, ظللت على هذا الحال ساعات, وإذا بالرجال يقدمون من عملهم ويدخلون البيت, تعبت فذهبت إلى غرفتي.وفي اليوم الثاني, ذهبت أترقب, ولم أرَ زوجتي, وفي اليوم الثالث كذلك, يئست من حياتها, توقعت أنها ماتت من شدة العذاب, أو قُتلب! ولكن لو كانت ماتت, فعلى الأقل سيكون هناك حركة في البيت, سيكون هناك من يأتي للعزاء أو الزيارة, لكني عندما لم أرَ شيئاً غريباً, أخذت أقنع نفسي أنها حية, وأن اللقاء سيكون قريباً.اللقاء وفي اليوم الرابع؛ لم أصبر على الجلوس في غرفتي, فذهبت أرقب بيتهم من بعيد, فلما ذهب الشباب مع أبيهم إلى أعمالهم كالعادة, وأنا أنظر وأتمنى, فإذا بالباب يُفتح فجأة, وإذا بوجه زوجتي يطل من ورائه, وإذا بها تلتفت يمنة ويسرة, نظرت إلى وجهها, فإذا به دوائر حمراء, ولكمات زرقاء, من كثرة الصفعات والكدمات, وإذا لباسها مخضَّب بالدماء, فزعت من منظرها, ورحمتها, اقتربت منها مسرعاً, نظرت إليها أكثر, فإذا الدماء تسيل من جروح في وجهها, وإذا يداها وقدماها تسيل بالدماء, وإذا ثيابها ممزقة, لم يبقَ منها إلا خرقة بسيطة تسترها, وإذا بأقدامها مربوطة بسلسلة! وإذا بيديها مربوطة بسلسلة من خلف ظهرها, لما رأيتها بكيت, لم أستطع أن أتمالك نفسي, ناديتها من بعيد.ثبات ووصايافقالت لي –وهي تدافع عبراتها, وتئن من شدة عذابها: اسمع يا خالدُ, لا تقلق عليَّ فأنا ثابتة على العهد, ووالله الذي لا إله إلا هو, إن ما أُلاقيه الآن, لا يساوي شعرة مما لاقاه الصحابة والتابعون, بل والأنبياء والمراسلون, وأرجوك يا خالد, لا تتدخل بيني وبين أهلي, واذهب الآن سريعاً, وانتظر في الغرفة, إلى أن آتيك إن شاء الله, ولكن أكثر من الدعاء, أكثر من قيام الليل, أكثر من الصلاة, ذهبتُ من عندها, وأنا أتقطع ألماً وحسرة عليها, وبقيت في غرفتي يوماً كاملاً أترقبها, وأتمنى مجيئها, ومر يوم آخر, وبدأ اليوم الثالث يطوي بساطه, حتى إذا أظلم الليل, وإذا بباب الغرفة يُطرق عليَّ؟ فزعت, من بالباب؟! من الطارق؟ أصبت بخوف شديد, مَن الذي يأتي في منتصف الليل؟!! لعل أهلها علموا بمكاني, لعل زوجتي اعترفت, فجاءوا إليَّ لقتلي, أصبت برعب كالموت, لم يبقَ بيني وبين الموت إلا شعرة, أخذت أردد قائلا: مَن بالباب؟ فإذا بصوت زوجتي يقول بكل هدوء: افتح الباب, أنا فلانة, أضأت نور الغرفة, فتحت الباب, دخلت عليَّ وهي تنتفض على حالة رثة, وجروح في جسدها, قالت لي بسرعة: هيا نذهب الآن, قلت: وأنت على هذا الحال؟! قالت: نعم, بسرعة, بدأت أجمع ملابسي, وأقبلت هي على حقيبتها, فغيرت ملابسها, وأخرجت حجابا وعباءة احتياطية فلبستها, ثم أخذنا كل ما لدينا ونزلنا, وركبنا سيارة أجرة, ألقت المسكينة بجسدها المتهالك الجائع المعذب, على كرسي السيارة.إلى المطاروأول ما ركبت أنا, قلت للسائق باللغة الروسية: إلى المطار, وكنتُ قد عرفت بعض الكلمات الروسية, فقالت زوجتي: لا, لن نذهب إلى المطار, سنذهب إلى القرية الفلانية, قلت: لماذا؟ نحن نريد أن نهرب, قالت: صحيح, ولكن إذا اكتشف أهلي هروبي, سبحثون عنا في المطار, ولكن نهرب إلى قرية كذا, فلما وصلنا تلك القرية نزلنا, وركبنا سيارة أخرى إلى قرية أخرى, ثم إلى قرية ثالثة, ثم إلى مدينة من المدن التي فيها مطار دولي, فلما وصلنا إلى المطار الدولي, حجزنا للعودة إلى بلادنا, وكان الحجز متأخراً فاستأجرنا غرفة وسكناها, فلما استقر بنا المقام في الغرفة, وشعرنا بالأمان, نزعت زوجتي عباءتها, فأخذت أنظر إليها, يا الله ليس هناك موضع سلم من الدماء أبداً!! جلد ممزق, دماء متحجرة, شعر مقطع, شفاة زرقاء.قصة الرعبسألتها: ما الذي حصل؟ فقالت: عندما دخلنا إلى البيت جلست مع أهلي, فقالوا لي: ما هذا اللباس؟!! قلت: إنه لباس الإسلام, قالوا: ومن هذا الرجل؟ قلت: هذا زوجي, أنا أسلمت وتزوجت بهذا الرجل المسلم, قالوا: لا يمكن هذا, فقلت: اسمعوا أحكي لكم القصة أولاً, فحكيت لهم القصة, وقصة ذلك الرجل الروسي الذي أراد أن يَجرَّني إلى الدعارة, وكيف هربت منه, ثم التقيت بك, فقالوا: لو سلكتي طريق الدعارة كان أحب إلينا من أن تأتيننا مسلمة, ثم قالوا لي: لن تخرجي من هذا البيت إلا أرثوذكسية أو جثة هامدة!! ومن تلك اللحظة, أخذوني ثم كتفوني, ثم جاءوا إليك وبدءوا يضربونك, وأنا أسمعهم يضربونك, وأنت تستغيث, وأنا مربوطة, وعندما هربت أنت, رجع إخوتي إليَّ, وعاودوا سبي وشتمي, ثم ذهبوا واشتروا سلاسل, فربطوني بها وبدءوا يجلدونني, فأتعرَّض لجلد مُبرِّح بأسواط عجيبة غريبة!! كل يوم, يبدأ الضرب بعد العصر إلى وقت النوم, أما في الصباح فإخواني وأبي في الأعمال, وأمي في البيت, وليس عندي إلا أخت صغيرة عمرها 15 سنة, تأتي إليَّ وتضحك من حالتي, وهذا هو وقت الراحة الوحيد عندي, هل تصدق أنه حتى النوم, أنام وأنا مغمى عليِّ! يجلدونني إلى أن يُغمى علي وأنام, وكانوا يطلبون منى فقط أن أرتد عن الإسلام, وأنا أرفض وأتصبر, بعد ذلك, بدأت أختي الصغيرة, تسألني لماذا تتركين دينك, دين أمك, دين أبيك, وأجدادك؟يجعل له مخرجاًفأخذت أقنعها, أُبيِّن لها الدين, وأوضح لها التوحيد, فبدأت فعلاً تشعر بالقناعة, بدأت تتأثر! بدأت صورة الإسلام أمامها تتضح! ففوجئت بها تقول لي: أنت على الحق, هذا هو الدين الصحيح, هذا هو الدين الذي ينبغي أن ألتزمه أنا أيضاً!! ثم قالت لي: أنا سأساعدك, قلت لها: إذا كنتِ تريدين مساعدتي, فاجعليني أقابل زوجي! فبدأت أختي تنظر من فوق البيت, فتراك وأنت تمشي, فكانت تقول لي: إنني أرى رجلاً صفته كذا وكذا, فقلت: هذا هو زوجي, فإذا رأيته فافتحي لي الباب لأكلمه, وفعلاً فتحت الباب؛ فخرجْتُ وكلمتك, لكني لم أستطع الخروج إليك؛ لأني كنتُ مربوطة بسلسلتين, مفتاحهما مع أخي, وسلسلة ثالثة, مربوطة بأحد أعمدة البيت, حتى لا أخرج, مفتاحها مع أختي هذه؛ لأجل أن تطلقني للذهاب إلى الحمام, وعندما كلمتك, وطلبت منك أن تبقى إلى أن آتيك, كنت مربوطة بالسلاسل, فأخذت أقنع أختي بالإسلام, فأسلمت وأرادت أن تضحي تضحية تفوق تضحيتي, وقرَّرت أن تجعلني أهرب من البيت, لكن مفاتيح السلاسل مع أخي, وهو حريص عليها, وفي ذاك اليوم أعدَّت أختي لأخوتي خمراً مركزاً ثقيلاً, فشربوا وشربوا, إلى أن سكروا تماماً لا يدرون عني شيئاً, ثم أخذتِ المفاتيح من جيب أخي, وفكت السلاسل عني, وجئت أنا إليك في ظلمة الليل, فقلت لها: وأختكِ, ماذا سيحصل لها؟ قالت: ما يُهمّ, قد طلبتُ منها أن لا تعلن إسلامها, إلى أن نتدبَّر أمرها, نمنا تلك الليلة, ومن الغد رجعنا إلى بلدنا, وأول ما وصلنا أدخلت زوجتي إلى المستشفى, ومكثتْ فيها عدة أيام تُعالج من آثار الضربات والتعذيب, وها نحن اليوم ندعو لأختها أن يثبتها الله على دينه.
السبت، 31 يناير 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق