كان الوقت صباحا باردا جدا، لم يستطع التغلب على برده إلا بزيادة نشاطه الحركي، وصعوده وهبوطه على سلم المصنع، ليستقر أخيرا مع مجموعة العمال الذين كانوا يشرفون على تحميل عدد من الثلاجات الزجاجية في شاحنة كانت وجهتها إلى أحد المتاجر الكبيرة، لاسيما أن المصنع الذي يعمل فيه كان من المصانع الضخمة التي تخصصت في صنع هذا النوع من الثلاجات التي تستخدم لحفظ اللحوم المبردة وعرضها، ولطالما بقي ردحا طويلا من الزمن وهو يقول إن من سوء حظه بقاءه مع مجموعة العمال بالقرب من الرافعة التي كانت تحمل الثلاجات لتضعها في الشاحنة، ودون قصد منه اقترب من إحداها بعد أن استقرت فوق الشاحنة، وفجأة وهو يتراجع إلى الخلف خوفا من سقوط الثلاجة التي كانت تتمايل فوق الشاحنة تعثر وسقط على ظهره ليسقط في الوقت نفسه لوح زجاجي يزيد وزنه على 500 كيلو جرام ليستقر هو الآخر فوق ساقيه، وحين هرع زملاؤه لإنقاذه كانت كمية الدماء التي نزفها كبيرة، تعاون الجميع لرفعه وطلبوا الإسعاف لنقله إلى المستشفى، حيث وجد الأطباء أنفسهم أمام كسور عديدة وبعض الأجزاء كانت مسحوقة ومهشمة بشكل كبير، ولم تطل المدة حتى وجد الأطباء أنفسهم أمام حل واحد ووحيد هو بتر الطرفين بسبب تغلغل الغرغرينا حتى أعلى الساقين، عندها بدأت رحلة من المعاناة مع طرفين مبتورتين، وإعاقة حولت نشاطه إلى كومة من اللحم يحملها كرسي متحرك، وحين سأله أحد أصدقائه عن شعوره قال: حين وقع الحادث قبل اثني عشر عاما كنت حزينا وغاضبا مما حدث، وكان غضبي من كل من حولي، ولدي رغبة في الانتقام من كل شخص ومن كل شيء، وأفهمني المحامي بأنني أملك من الأدلة ما يكسبني الدعوى ضد المصنع الذي قد يتعرض للإفلاس، وقام المحامي بعدها بالتفاوض مع أصحاب المصنع الذين تحملوا بموجبه تكاليف العلاج ودفعوا لي مبلغا كبيرا من المال تعويضا عن إصابتي، اشتريت بجزء كبير منه أسهما في شركة لتقنية المعلومات، واضطررت بعدها للجلوس، وبدأت أملأ فراغي بالقراءة، ووجدتها فرصة لمتابعة تعليمي الجامعي الذي تركته تحت ضغط البحث عن لقمة العيش مما اضطرني وقتها للعمل في المصنع، وبعد أربع سنوات ونصف من بتر قدمي كنت قد حصلت على بكالوريوس في تقنية المعلومات، مما زاد اهتمامي بعمل الشركة التي أملك بعض أسهمها، وبدأت بمتابعة أعمالها وتوصلت بما صار لدي من خبرة ومعرفة إلى ابتكار طريقة يمكن أن تزيد من أرباح الشركة، إلا أن أحدا من أعضاء إدارتها لم يعرني أي اهتمام، فرفعت دعوى ضدهم، أجبروا بعدها على سماع وجهة نظري، على أن أتحمل مسؤولية خسارة أسهمي في حال فشل اقتراحي، فغامرت وكانت النتيجة عكس ما توقعوه، فنجحت فكرتي وتم تطبيقها بشكل عملي مما ضاعف من أرباحي وجعلني أشتري عددا أكبر من الأسهم، وطلبوا مني العمل في جهازها الإداري وتقلبت في مناصب عديدة وهاأنذا الآن نائبا لمديرها العام.. لقد رأى هذا الرجل الحادثة في البداية باعتبارها مصيبة كبيرة، ومأساة عظيمة، إلا أن تلك المأساة دفعته كما يقول لإعادة النظر في فلسفة حياته برمتها، ولتكون بداية أمل أنقذ حياته وحياة أسرته، وأحالت المأساة حياته إلى حياة مليئة بالمنجزات والمكاسب، وتبقى السنة الربانية ( وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) صادقة سواء كان الفرد مؤمنا بها أو غير مؤمن، ويبقى الفرد في أعقاب كل أزمة بحاجة لطرح سؤال على نفسه: ما الحكمة مما حدث؟ وقد يجد هذه الحكمة في لحظة الأزمة، وقد لا يدرك الحكمة والفائدة إلا بعد مضي زمن قصير أو طويل، إلا أنه في كل الحالات يبقى أمل مع كل مأساة.
السبت، 4 ديسمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق