الثلاثاء، 9 أغسطس 2011
قرطبة الجامع
عام 93 هجرية توجهت جيوش المسلمين بقيادة القائد العربي طارق بن زياد نحو المحيط الأطلسي، حيث استطاع الاستيلاء على مدينة قرطبة الأندلسية التي تقع في جنوب غرب أسبانيا، لتكون أول مركز للحضارة الإسلامية في أوروبا. في عصر الخلافة الأموية بلغت قرطبة أوج عظمتها وتألقها الحضاري، خاصة بعد أن اتخذها الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل عاصمة له، وجعلها مركزا للعلم والثقافة والفنون في أوروبا كلها، أنشئت في عهده العديد من المدارس والأبنية المعمارية، التي يعد مسجد قرطبة الجامع، أشهرها وأجملها والذي لا يزال باقيا حتى اليوم بكل أروقته ومحاريبه، على الرغم من أيدي التخريب التي امتدت إليه بعد سقوط قرطبة في يد الأسبان عام 633 هجرية، فغيرت بعض معالمه، ولكنه لا يزال يعد الأثر الإسلامي الوحيد الباقي من الأندلس الإسلامية. بعد أن اتخذ بنو أمية قرطبة عاصمة لخلافتهم، تقاسموا مع نصارى قرطبة كنيستهم العظمى، فبنوا في أحد شطريها النواة الأولى للمسجد، بينما بقى الشطر الآخر كما هو كنيسة، ونتيجة لازدياد أعداد المسلمين في المدينة اشترى عبد الرحمن الداخل شطر الكنيسة الآخر من النصارى، مقابل أن يقوم بإعادة بناء جميع كنائسهم التي هدمت عند الفتح الإسلامي، وبالفعل قام عبد الرحمن الداخل بإعادة بناء المسجد عام 170 هـ على شكل وأساس جديد، وبلغت مساحته الإجمالية عند ذلك حوالي 4875 مترا مربعا، أطلق عليه في ذلك الوقت جامع الحضارة أي جامع الخليفة. في عام 176هـ أمر المير الأموي عبد الرحمن بن معاوية ببناء قبة المسجد، كما قام الأمير المستنصر بالله عام 350 هـ ببناء منارة بديعة التصميم، تتكون من سلم يحتوي على حوالي 170 درجة، يوجد في أعلاها ثلاث مظلات إثنتان من الذهب والثالثة من الفضة، لها باب نحاسي يبلغ طوله حوالي 8 أمتار. أمر ذلك الخليفة أيضا ببناء ثلاث مقصورات للمسجد، وهي مقصورة دار الصدقات، التي كانت مخصصة لتوزيع الصدقات على المحتاجين، ومقصورة الوعاظ، وكذلك مقصورة البائسين، التي كان الفقراء يتخذونها مسكنا لهم يبيتون فيها، كما أمر أيضا بإقامة رصيف على امتداد الجامع ليكون متنزها لأهالي قرطبة، أطلق عليه الرصيف المستنصري. يتميز المسجد بشكله المستطيل، وصحنه الفسيح الذي يضم العديد من الأروقة، أوسعها الرواق الأوسط المؤدي لمحراب غاية في الروعة والإبداع، حيث يعلوه منبر مصنوع من نوع نفيس من الأخشاب النادرة، يطلق عليه خشب الساج. واجهة المسجد مصنوعة من الرخام الأبيض المنقوش بزخارف إسلامية، كما تنتشر حول السقف شرفات تم استعارة تصميمها من الفن الزخرفي الشرقي، لتصبح فيما بعد شكلا أساسيا من ملامح الفن الأندلسي. أهم ما يميز الجامع غابة الأعمدة الرخامية التي تنتشر في صحنه، ويبلغ عددها أكثر من 1200 عمود، تتجلى عبقرية بناء تلك الأعمدة في أنها تحمل أسقفا يبلغ ارتفاعها أكثر من 9 أمتار، في حين أنها رفيعة لا يزيد قطر الواحدة منها على 25 سم، تمنح المسجد من بعيد مظهر غابة كثيفة الأشجار، كما ينير فضاء المسجد أضواء تتألق من ثريات نحاسية، إحداها تحتوي على أكثر من ألف مصباح.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق